فصل: تفسير الآيات (28- 34):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (28- 34):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)}
قوله: {أَلَمْ تَرَ}: هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، وهو تعجيب من حال الكفار حيث جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر أي: بدل شكرها الكفر، بها، وذلك بتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله منهم، وأنعم عليهم به، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أنهم كفار مكة وأن الآية نزلت فيهم. وقيل: نزلت في الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وقيل: نزلت في بطنين من بطون قريش بني مخزوم، وبني أمية. وقيل: نزلت في منتصرة العرب. وهم جبلة بن الأيهم وأصحابه، وفيه نظر، فإن جبلة وأصحابه لم يسلموا إلاّ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقيل: إنها عامة في جميع المشركين. وقيل: المراد بتبديل نعمة الله كفراً أنهم لما كفروها سلبهم الله ذلك فصاروا متبدّلين بها الكفر {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} أي: أنزلوا قومهم بسبب ما زينوه لهم من الكفر دار البوار، وهي جهنم، والبوار: الهلاك. وقيل: هم قادة قريش أحلوا قومهم يوم بدر دار البوار أي: الهلاك وهو القتل الذي أصيبوا به، ومنه قول الشاعر:
فلم أرَ مثلهم أبطال حرب ** غداة الحرب إذ خيف البوار

والأوّل أولى لقوله: {جَهَنَّمَ} فإنه عطف بيان لدار البوار، و{يَصْلَوْنَهَا} في محل نصب على الحال، أو هو مستأنف لبيان كيفية حلولهم فيها {وَبِئْسَ القرار} أي: بئس القرار قرارهم فيها، أو بئس المقرّ جهنم، فالمخصوص بالذمّ محذوف {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} معطوف على {وأحلوا} أي: جعلوا لله شركاء في الربوبية، أو في التسمية وهي الأصنام. قرأ ابن كثير وأبو عمرو {ليضلوا} بفتح الياء أي: ليضلوا أنفسهم عن سبيل الله، وتكون اللام للعاقبة، أي: ليتعقب جهلهم لله أنداداً ضلالهم، لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه، وحسن استعمال لام العاقبة هنا؛ لأنها تشبه الغرض والغاية من جهة حصولها في آخر المراتب، والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز. وقرأ الباقون بضم الياء ليوقعوا قومهم في الضلال عن سبيل الله، فهذا هو الغرض من جعلهم لله أنداداً. ثم هدّدهم سبحانه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَمَتَّعُواْ} بما أنتم فيه من الشهوات، وما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم وإضلال الناس {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} أي: مردّكم ومرجعكم إليها ليس إلا، ولما كان هذا حالهم، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه وانهماكهم فيه لا يقلعون عنه، ولا يقبلون فيه نصح الناصحين، جعل الأمر بمباشرته مكان النهي قربانه إيضاحاً لما تكون عليه عاقبتهم، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار فلابد لهم من تعاطي الأسباب المقتضية ذلك، فجملة: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} تعليل للأمر بالتمتع، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره.
ويجوز أن تكون هذه الجملة جواباً لمحذوف دلّ عليه سياق الكلام، كأنه قيل: فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار، والأوّل أولى والنظم القرآني عليه أدلّ. وذلك كما يقال لمن يسعى في مخالفة السلطان: اصنع ما شئت من المخالفة، فإن مصيرك إلى السيف.
{قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً} لما أمره بأن يقول للمبدّلين نعمة الله كفراً الجاعلين لله أنداداً ما قاله لهم، أمره سبحانه أن يقول للطائفة المقابلة لهم، وهي طائفة المؤمنين، هذا القول، والمقول محذوف دلّ عليه المذكور، أي: قل لعبادي: أقيموا وأنفقوا ويقيموا وينفقوا، فجزم {يقيموا} على أنه جواب الأمر المحذوف، وكذلك {ينفقوا} ذكر معنى هذا الفراء.
وقال الزجاج: إنّ يقيموا مجزوم بمعنى اللام، أي: ليقيموا فأسقطت اللام، ثم ذكر وجهاً آخر للجزم مثل ما ذكره الفراء. وانتصاب {سرّا} ً و{علانية} إما على الحال، أي: مسرين ومعلنين، أو على المصدر، أي: إنفاق سرّ وإنفاق علانية، أو على الظرف، أي: وقت سرّ ووقت علانية. قال الجمهور: السرّ: ما خفي. والعلانية: ما ظهر. وقيل: السرّ: التطوّع، والعلانية الفرض، وقد تقدم بيان هذا عند تفسير قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ} [البقرة: 271].
{مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال} قال أبو عبيدة: البيع ها هنا: الفداء، والخلال: المخالة، وهو مصدر. قال الواحدي: هذا قول جميع أهل اللغة، وقال أبو عليّ الفارسي: يجوز أن يكون جمع خلة مثل برمة وبرام وعلبة وعلاب، والمعنى: أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدي المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك، وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله، وينقذه من العذاب، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم الله، ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك، بل لا مال لهم إذ ذاك، فالجملة، أعني: {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال} لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله، ويمكن أن يكون فيها أيضاً تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة؛ وذلك لأن تركها كثيراً ما يكون سبب الاشتغال بالبيع، ورعاية حقوق الأخلاء، وقد تقدم في البقرة تفسير البيع والخلال.
{الله الذي خَلَقَ السموات والأرض} أي: أبدعهما واخترعهما على غير مثال، وخلق ما فيهما من الأجرام العلوية والسفلية، والاسم الشريف مبتدأ، وما بعده خبره {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} المراد بالسماء هنا جهة العلو، فإنه يدخل في ذلك الفلك عند من قال: إن ابتداء المطر منه.
ويدخل فيه السحاب عند من قال: إن ابتداء المطر منها، وتدخل فيه الأسباب التي تثير السحاب كالرياح. وتنكير الماء هنا للنوعية أي: نوعاً من أنواع الماء، وهو ماء المطر {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} أي: أخرج بذلك الماء من الثمرات المتنوعة رزقاً لبني آدم يعيشون به، و{من} في {من الثمرات} للبيان كقولك: أنفقت من الدراهم، وقيل: للتبعيض؛ لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم، ومنها ما ليس برزق لهم، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} فجرت على إرادتكم واستعملتموها في مصالحكم. ولذا قال: {لِتَجْرِىَ في البحر} كما تريدون وعلى ما تطلبون {بِأَمْرِهِ} أي: بأمر الله ومشيئته، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} أي: ذللها لكم بالركوب عليها، والإجراء لها إلى حيث تريدون.
{وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر} لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما. وانتصاب {دائبين} على الحال، والدؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية، أي: دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره. وقيل: {دائبين} في السير امتثالاً لأمر الله، والمعنى: يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ولا ينقطع سيرهما {وسخر لكم الليل والنهار} يتعاقبان، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه من أمور دنياكم. والليل لتسكنوا كما قال سبحانه: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] {وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال الأخفش: أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئاً، فحذف شيئاً. وقيل: المعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه ومن كل ما لم تسألوه، فحذفت الجملة الأخرى قاله ابن الأنباري. وقيل: {من} زائدة، أي: آتاكم كل ما سألتموه. وقيل: للتبعيض، أي: آتاكم بعض كل ما سألتموه. وقرأ ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة {من كل} بتنوين كلّ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون {ما} نافية، أي: آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له، ويجوز أن تكون موصولة أي: آتاكم من كل شيء الذي سألتموه {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} أي وإن تتعرّضوا لتعداد نعم الله التي أنعم بها عليكم إجمالاً فضلاً عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال، وأصل الإحصاء: أن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد، وضع حصاة ليحفظه بها، ومعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط، ولا أمكنه أصلاً، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه، فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها، واختلاف أجناسها، اللهم إنا نشكرك على كلّ نعمة أنعمت بها علينا مما لا يعلمه إلاّ أنت، ومما علمناه شكراً لا يحيط به حصر، ولا يحصره عد، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه، وظاهره شمول كل إنسان، وقال الزجاج: إن الإنسان اسم جنس يقصد به الكافر خاصة كما قال: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2]. {كَفَّارٌ} أي: شديد كفران نعم الله عليه جاحد لها، غير شاكر لله سبحانه عليها، كما ينبغي ويجب عليه.
وقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والبخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا} قال: هم كفار أهل مكة.
وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا} قال: هما الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، عن عمر نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن عليّ في الآية نحوه أيضاً.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي الطفيل، أن ابن الكوّاء سأل علياً عن الذين بدلوا نعمة الله كفراً. قال: هم الفجار من قريش كفيتهم يوم بدر. قال: فمن الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا؟ قال: منهم أهل حروراء.
وقد روي في تفسير هذه الآية عن عليّ من طرق نحو هذا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم جبلة بن الأيهم، والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} قال: الهلاك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} قال: أشركوا بالله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} قال: بكل فائدة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ} قال: دؤوبهما في طاعة الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة {وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال: من كل شيء رغبتم إليه فيه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: من كل الذي سألتموه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب عن سليمان التيمي قال: إن الله أنعم على العباد على قدره، وكلفهم الشكر على قدرهم.
وأخرجا أيضاً عن بكر بن عبد الله المزني قال: يا ابن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك.
وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال: من لم يعرف نعمة الله عليه إلاّ في مطعمه ومشربه، فقد قلّ عمله وحضر عذابه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم قال: قال داود عليه السلام: «ربّ أخبرني ما أدنى نعمتك عليّ، فأوحى إليّ: يا داود تنفس فتنفس، فقال هذا أدنى نعمتي عليك».
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري. فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: {إن الإنسان لظلوم كفار}.

.تفسير الآيات (35- 41):

{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}
قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ} متعلق بمحذوف، أي: اذكر وقت قوله، ولعل المراد بسياق ما قاله إبراهيم عليه السلام في هذا الموضع بيان كفر قريش بالنعم الخاصة بهم، وهي إسكانهم مكة بعد ما بين كفرهم بالنعم العامة. وقيل: إن ذكر قصة إبراهيم ها هنا لمثال الكلمة الطيبة. وقيل: لقصد الدعاء إلى التوحيد، وإنكار عبادة الأصنام {رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا} المراد بالبلد هنا: مكة. دعا إبراهيم ربه أن يجعله آمنا، أي: ذا أمن، وقدّم طلب الأمن على سائر المطالب المذكورة بعده، لأنه إذا انتفى الأمن لم يفرغ الإنسان لشيء آخر من أمور الدين والدنيا.
وقد تقدّم تفسير مثل هذه الآية في البقرة عند قوله تعالى: {رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا} [البقرة: 126] والفرق بين ما هنا وما هنالك أن المطلوب هنا مجرد الأمن للبلد، والمطلوب هنالك البلدية والأمن {واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} يقال: جنبته كذا، وأجنبته وجنبته، أي: باعدته عنه، والمعنى: باعدني، وباعد بنيّ عن عبادة الأصنام، قيل: أراد بنيه من صلبه وكانوا ثمانية، وقيل: أراد من كان موجوداً حال دعوته من بنيه وبني بنيه. وقيل: أراد جميع ذريته ما تناسلوا، ويؤيد ذلك ما قيل من أنه لم يعبد أحد من أولاد إبراهيم صنماً، والصنم هو التمثال الذي كانت تصنعه أهل الجاهلية من الأحجار ونحوها فيعبدونه. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر: {وأجنبني} بقطع الهمزة على أن أصله أجنب.
{رَبّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس} أسند الإضلال إلى الأصنام مع كونها جمادات لا تعقل؛ لأنها سبب لضلالهم فكأنها أضلتهم، وهذه الجملة تعليل لدعائه لربه، ثم قال: {فَمَن تَبِعَنِى} أي: من تبع ديني من الناس فصار مسلماً موحداً {فَإِنَّهُ مِنّى} أي: من أهل ديني، جعل أهل ملته كنفسه مبالغة. {وَمَنْ عَصَانِى} فلم يتابعني ويدخل في ملتي {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قادر على أن تغفر له. قيل: قال هذا قبل أن يعلم أن الله لا يغفر أن يشرك به. كما وقع منه الاستغفار لأبيه وهو مشرك، كذا قال ابن الأنباري. وقيل: المراد عصيانه هنا فيما دون الشرك. وقيل: إن هذه المغفرة مقيدة بالتوبة من الشرك.
ثم قال: {رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى} قال الفراء: من للتبعيض، أي: بعض ذرّيتي.
وقال ابن الأنباري: إنها زائدة، أي: أسكنت ذرّيتي، والأوّل أولى؛ لأنه إنما أسكن إسماعيل وهو بعض ولده {بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ} أي: لا زرع فيه، وهو وادي مكة {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} أي: الذي يحرم فيه ما يستباح في غيره؛ وقيل: إنه محرّم على الجبابرة. وقيل: محرم من أن تنتهك حرمته، أو يستخفّ به، وقد تقدم في سورة المائدة ما يغني عن الإعادة، ثم قال: {ربنا ليقيموا الصلاة} اللام متعلقة بأسكنت، أي: أسكنتهم ليقيموا الصلاة فيه، متوجهين إليه، متبركين به، وخصها دون سائر العبادات لمزيد فضلها، ولعلّ تكرير النداء لإظهار العناية الكاملة بهذه العبادة {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} الأفئدة جمع فؤاد، وهو القلب، عبر به عن جميع البدن؛ لأنه أشرف عضو فيه.
وقيل: هو جمع وفد والأصل أوفدة، فقدّمت الفاء، وقلبت الواو ياء، فكأنه قال: وجعل وفوداً من الناس تهوي إليهم، و{من} في {من الناس} للتبعيض. وقيل: زائدة، ولا يلزم منه أن يحج اليهود والنصارى بدخولهم تحت لفظ الناس؛ لأن المطلوب توجيه قلوب الناس إليهم للسكون معهم والجلب إليهم، لا توجيهها إلى الحجّ، ولو كان هذا مراداً لقال تهوي إليه، وقيل: من للابتداء كقولك: القلب مني سقيم، يريد قلبي، ومعنى {تهوي إليهم}: تنزع إليهم، يقال: هوى نحوه: إذا مال، وهوت الناقة تهوي هوياً فهي هاوية: إذا عدت عدواً شديداً كأنها تهوي في بئر، ويحتمل أن يكون المعنى: تجيء إليهم أو تسرع إليهم، والمعنى: متقارب، {وارزقهم مّنَ الثمرات} أي: أرزق ذريتي الذين أسكنتهم هنالك، أو هم ومن يساكنهم من الناس من أنواع الثمرات التي تنبت فيه، أو تجلب إليه {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} نعمك التي أنعمت بها عليهم.
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} أي: ما نكتمه وما نظهره، لأن الظاهر والمضمر بالنسبة إليه سبحانه سيان. قيل والمراد هنا بما نخفي ما يقابل ما نعلن، فالمعنى: ما نظهره وما لا نظهره، وقدّم ما نخفي على ما نعلن للدلالة على أنهما مستويان في علم الله سبحانه. وظاهر النظم القرآني عموم كل ما لا يظهر وما يظهر من غير تقييد بشيء معين من ذلك. وقيل: المراد ما يخفيه إبراهيم من وجده بإسماعيل وأمه، حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع، وما يعلنه من ذلك. وقيل: ما يخفيه إبراهيم من الوجد ويعلنه من البكاء والدعاء. والمجيء بضمير الجماعة يشعر بأن إبراهيم لم يرد نفسه فقط، بل أراد جميع العباد، فكأن المعنى: أن الله سبحانه يعلم بكل ما يظهره العباد وبكل ما لا يظهرونه. وأما قوله: {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَئ في الأرض وَلاَ في السماء} فقال جمهور المفسرين: هو من كلام الله سبحانه تصديقاً لما قاله إبراهيم من أنه سبحانه يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه، فقال سبحانه: {وما يخفى على الله شيء} من الأشياء الموجودة كائناً ما كان. وإنما ذكر السموات والأرض لأنها المشاهدة للعباد، وإلاّ فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم، وكل ما هو خارج عنه لا تخفى عليه منه خافية.
قيل: ويحتمل أن يكون هذا من قول إبراهيم تحقيقاً لقوله الأوّل، وتعميماً بعد التخصيص.
ثم حمد الله سبحانه على بعض نعمه الواصلة إليه فقال: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} أي: وهب لي على كبر سني وسنّ امرأتي، قيل: ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة، وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة، قيل: و{على} هنا بمعنى (مع) أي: وهو لي مع كبري ويأسي عن الولد {إِنَّ رَبّى لَسَمِيعُ الدعاء} أي: لمجيب الدعاء، من قولهم: سمع كلامه: إذا أجابه واعتدّ به وعمل بمقتضاه، وهو من إضافة الصفة المتضمنة للمبالغة إلى المفعول، والمعنى: إنك لكثير إجابة الدعاء لمن يدعوك، ثم سأل الله سبحانه بأن يجعله مقيم الصلاة محافظاً عليها غير مهمل لشيء منها، ثم قال: {وَمِن ذُرّيَتِى} أي: بعض ذريتي، أي: اجعلني واجعل بعض ذريتي مقيمين للصلاة، وإنما خصّ البعض من ذريته؛ لأنه علم أن منهم من لا يقيمها كما ينبغي. قال الزجاج: أي اجعل من ذرّيتي من يقيم الصلاة، ثم سأل الله سبحانه أن يتقبل دعاءه على العموم، ويدخل في ذلك دعاؤه في هذا المقام دخولاً أوّلياً. قيل: والمراد بالدعاء هنا: العبادة، فيكون المعنى: وتقبل عبادتي التي أعبدك بها، ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر له ما وقع منه، مما يستحق أن يغفره الله وإن لم يكن كبيراً، لما هو معلوم من عصمة الأنبياء عن الكبائر. ثم طلب من الله سبحانه أن يغفر لوالديه، وقد قيل: إنه دعا لهما بالمغفرة قبل أن يعلم أنهما عدوان لله سبحانه كما في قوله سبحانه: {وَمَا كَانَ استغفار إبراهيم لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114]. وقيل: كانت أمه مسلمة، وقيل: أراد بوالديه: آدم وحوّاء. وقرأ سعيد بن جبير: {ولوالدي} بالتوحيد على إرادة الأب وحده. وقرأ إبراهيم النخعي: {ولولديّ} يعني: إسماعيل وإسحاق، وكذا قرأ يحيى بن يعمر، ثم استغفر للمؤمنين. وظاهره شمول كل مؤمن سواء كان من ذرّيته أو لم يكن منهم. وقيل: أراد المؤمنين من ذرّيته فقط. {يَوْمَ يَقُومُ الحساب} أي: يوم يثبت حساب المكلفين في المحشر، استعير له لفظ يقوم الذي هو حقيقته في قيام الرجل للدلالة على أنه في غاية الاستقامة. وقيل: إن المعنى: يوم يقوم الناس للحساب. والأول أولى.
وقد أخرج ابن جرير عن مجاهد في قوله: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم} الآية قال: فاستجاب الله لإبراهيم دعوته في ولده، فلم يعبد أحد من ولده صنماً بعد دعوته. واستجاب الله له، وجعل هذا البلد آمناً، ورزق أهله من الثمرات، وجعله إماماً، وجعل من ذريته من يقيم الصلاة، وتقبل دعاءه فأراه مناسكه وتاب عليه.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عن عقيل بن أبي طالب: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة، فدعاهم إلى الله وإلى عبادته والمؤازرة على دينه، فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه، فقرأ من سورة إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إبراهيم رَبّ اجعل هذا البلد آمِنًا واجنبنى وَبَنِىَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} إلى آخر السورة، فرّق القوم وأخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا وأجابوه.
وأخرج الواقدي، وابن عساكر من طريق عامر بن سعد عن أبيه قال: كانت سارّة تحت إبراهيم، فمكثت تحته دهراً لا ترزق منه ولداً، فلما رأت ذلك وهبت له هاجر أمة لها قبطية، فولدت له إسماعيل، فغارت من ذلك سارة ووجدت في نفسها، وعتبت على هاجر، فحلفت أن تقطع منها ثلاثة أطراف، فقال لها إبراهيم: هل لك أن تبرّي يمينك؟ قالت: كيف أصنع؟ قال: اثقبي أذنيها واخفضيها، والخفض: هو الختان، ففعلت ذلك بها فوضعت هاجر في أذنيها قرطين فازدادت بهما حسناً، فقالت سارّة: أراني إنما زدتها جمالاً، فلم تقارّه على كونه معها ووجد بها إبراهيم وجداً شديداً، فنقلها إلى مكة فكان يزورها في كل يوم من الشام على البراق من شغفه بها وقلة صبره عنها.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: {إِنَّى أَسْكَنتُ مِن ذُرّيَّتِى} قال: أسكن إسماعيل وأمه مكة.
وأخرج ابن المنذر عنه قال: إن إبراهيم حين قال: {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} لو قال: أفئدة الناس تهوي إليهم لازدحمت عليه فارس والروم.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحكم قال: سألت عكرمة وطاوساً وعطاء بن أبي رباح عن هذه الآية: {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} فقالوا: البيت تهوي إليه قلوبهم يأتونه. وفي لفظ قالوا: هواهم إلى مكة أن يحجوا.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {تَهْوِى إِلَيْهِمْ} قال: تنزع إليهم.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن محمد بن مسلم الطائفي: أن إبراهيم لما دعا للحرم {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} نقل الله الطائف من فلسطين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الزهري قال: إن الله نقل قرية من قرى الشام فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان، قال السيوطي: بسندٍ حسن، عن ابن عباس قالوا: لو كان إبراهيم عليه السلام قال: فاجعل أفئدة الناس تهوي إليهم لحجّ اليهود والنصارى والناس كلهم، ولكنه قال أفئدة من الناس فخصّ به المؤمنين.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في قوله: {مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ} قال: من الحزن.
وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي في قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى} قال: من حبّ إسماعيل وأمه {وَمَا نُعْلِنُ} قال: ما نظهر لسارّة من الجفاء لهما.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِى عَلَى الكبر إسماعيل وإسحاق} قال: هذا بعد ذلك بحين.
وأخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال: بشر إبراهيم بعد سبع عشرة سنة ومائة سنة.